تعدد الأختام وجوازات السفر ٢
- Mostafa Farouk ابن فضلان
- 18 أبريل
- 5 دقائق قراءة
تاريخ التحديث: 18 أبريل
واعلم يا صاح – رزقك الله فطنة العارفين – أن من قوانين التسيار في هذا الزمان قاعدة ثانية وجبت الإشارة إليها، وهي أن بعض التأشيرات لا ينبغي أن تُجمع في وثيقة سفر واحدة، كما لا يُجمع بين النار والبارود، ولا بين الخصوم في دار واحدة، فإن فيها ما قد يورثك الغُرم أو يُنزل بك الحَبس أو يُفضي بك إلى الطرد شرّ طردة، حتى ولو كنت من أهل السلم والبراءة، لا تخوض غمار السياسة ولا تقرع طبولها.
فليست المسألة مقتصرة على بلاد النزاع والحرب، بل قد يتعدّى الأمر إلى مواضع لا يتنبه لها إلا فطين لبيب.. (المزيد)

في التأشيرات ومزالق الأختام، وما يُستحسن للرحّالة معرفته وتجنّبه
يا صاح، اعلم – رزقك الله فطنة العارفين – أن من قوانين التسيار في هذا الزمان قاعدة ثانية وجبت الإشارة إليها، وهي أن بعض التأشيرات لا ينبغي أن تُجمع في وثيقة سفر واحدة، كما لا يُجمع بين النار والبارود، ولا بين الخصوم في دار واحدة، فإن فيها ما قد يورثك الغُرم أو يُنزل بك الحَبس أو يُفضي بك إلى الطرد شرّ طردة، حتى ولو كنت من أهل السلم والبراءة، لا تخوض غمار السياسة ولا تقرع طبولها.
فليست المسألة مقتصرة على بلاد النزاع والحرب، بل قد يتعدّى الأمر إلى مواضع لا يتنبه لها إلا فطينٌ مُتتبع لأحوال الناس وأخبار الدول، كمن يدخل كوسوڤا من صربيا دون رجوعٍ إليها، أو من يحمل أختاماً إسرائيلية في جوازه ثم يطلب الدخول إلى بعض بلاد العرب والمسلمين، أو مَن زار ناغورنو كاراباخ فاستُشكل عليه الدخول إلى أذربيجان، أو من حلّ بأفغانستان أو العراق أو إيران ثم قصد دولاً تتحسس من تلك المواطن.
وقد حدّثتني صديقة ألمانية مسلمة من أصلٍ باكستاني – وكان ذلك أثناء رحلة الأبّيتور المدرسية (رحلة المدرسة الثانوية المعتادة في النوجه لدول أوروبيا أخرى لكن في عامها ومدرستها بمدينة مونستر التي بينها وبين مدينة ريشون لتسيون (رأس لصهيون Rishon-Li-Zion) – فقالت لا بأس لعلها فرصة لزيارة الأرض المقدسة لترى فلسطين كأول دولة لها من عالم الشرق الأوسط الساحر عن قرب حتى ولو من خلال سردية كاملة من البروبجندا التي لن تعجبها , لكن لا بأس تذهب وترى وتخوض التجربة…
كان هذا في بدايات التسعينات وأقاموا في "كيبوتس" (مزرعة تعاونية)، -ولعل ما أسرته لي آنذاك ومواقف كوميدية وساخرة يستحق مقال وحده يوما ما- فلما همّت بالذهاب لمكة بغرض الحج، كادت أن ترد من منفذ الدخول لوجود الختم عبري في جواز سفرها -كانت الدولة العبرية لازالت تختم جوازات السفر كلها حتى عام ٢٠١٤ وهو العام الذي قمت فيه بأول زيارة لأرض فلسطين- ، ولولا أن الله يسر لها الحج لعادت من حيث أتت.
واعلم يا صاح أن بعض المواطن تطلب تصاريح خاصة، كقاعدة "بايكونور" في كازاخستان، لأن تأشيرة البلد ليست كافية للإقتراب من قاعدة الفضاء الأهم في الاتحاد السوفيتي وروسيا وكازاخستان اللتان ورثاها، فالدخول إليها لا يتم إلا بإذنٍ خاص، إذ هي دار للعلوم الفضائية منذ عهد الروس الأوائل. وكذلك جزيرة الفصح la isla de la pascua في المحيط الهادي والتابعة لدولة تشيلي، فإن لم يكن نزلك مسجلاً ولم تُعلِم سلطات الهجرة بمسيرك، صُدّ عنك السبيل. (كنت أحدثت منه ذكرا في #بن_فضلان_في_بلاد_الشيليان ورحلتي #الطريق_إلى_الباسيفيك)
في تعدد الجوازات، وما فيه من بلاء وبلاء من النعم
فإن كنت من أولي النعم، ممن رزقهم الله جوازي سفر أو أكثر، فهنيئاً لك، فأنت من القِلّة التي لا تُحصى، والناجين من ضيق الوثيقة الواحدة. وربّما كتم الناس هذا الأمر اتقاءً من الحسد، أو ليتخذوه سلاحاً عند النوائب لكن استخدامه يجب أن يكون بحكمة بالغة وتعرف أين تضع أحدهما أو كلاهما أو أي منهما…
وإن لم تكن من ذوي التعدد في الجنسيات، فقد تأذن بعض الدول – كألمانيا – بحمل جوازين من نفس الجنسية، بشروط، منها أن يكون الأول ممتداً لعشر سنين، والثاني يُمنح لست سنين لا أكثر، على أن يكون لك سبب معتبر كالسفر لدولة تأخذ وقتاً في منح التأشيرات، أو التحفّظ من دولٍ لا تقبل أختام أعدائها.
وأمريكا كذلك تفعل، فتعطي جوازاً أولياً لعشر سنين، وآخر ثانوياً لسنتين أو أربع، ولا يُجدد. فانظر في أمرهم في موقع NPIC، ففيه من التفاصيل ما يعينك في مسعاك.
وبما أنني من الفريق الأول ممن يتمتعون بحمل عدة جوازات لدول مختلفة فقد وقع لي أمر ذات يومٍ حين كنت أتهيأ لرحلة "#طريق_الحرير"، فقد أضاعت قنصلية أوزبكستان في برلين جوازي الذي فيه التأشيرة، وهممت أن أركب إلى كازاخستان بجوازي الآخر، فإذا بهم قبل السفر بثلاثة أيام يهاتفونني بالبشرى أنهم وجدوه بعد بحث جهيد، فحمدت الله ووصلني بالبريد قبيل الرحيل بيوم واحد. فلله الحمد والمنة.
في التعامل مع الأختام المتضادة والحلول الممكنة
وإن كنت تخشى تعارض الأختام، فاجعل زياراتك للمواطن المشبوهة قرب نهاية صلاحية جوازك، ثم استخرج جوازاً جديداً نظيف الصفحة. أو احرص على أن تكون التأشيرات المتنازعة في جوازين مختلفين. تماما كما حضرت لرحلات ايران وسوريا ولبنان والعراق وافغانستان من قبل (راجع مقال محاولات الذهاب لإيران)
وقد حدّثتني صديقة أسرتي البلجيكية عن رحلة بحرية في شرق المتوسط عام 1975 زارت فيها بيروت والقاهرة وتل أبيب، فلم يكن لها بُد من استصدار جوازين: أحدهما للبلاد العربية، والآخر للدخول إلى مرافئ إسرائيل، وكان هذا شأن من يخوض في لجج السياسة أو يمرّ على حدودٍ تترصد لبعضها البعض خاصة أوقات الحروب.
في الجوازات والجنسية، وما فيها من همٍّ وسعة
واعلم يا صاح، أن الجواز وثيقة لا تزيد من قدرك ولا تنقص، فما هي إلا دفتر صغير اختلف لونه أو رسمه غلى ثمنه أو رخص .. لكن الإنسان هو من يُعليه أو يُحطّه. فهو صنيعة بشرية، يسّرت في ظاهرها الانتقال، لكنها عقّدته من حيث لا يُرى، حتى صار الجواز حجاباً، والتأشيرة سداً، والسفارة طابور ابتلاء.
وجواز السفر، وإن ظنّه الناس حقاً، إلا أنه إلتزام، وفي التعدد منه سعةٌ ومشقة معاً، فلصاحبه حرية حركة، لكنه يحمل أثقالاً: ضرائب من هنا، وخدمة عسكرية من هناك، والتزامات قانونية قد لا تعفى منها حتى وأنت في أقاصي الأرض، كما يحدث للعبد لله الذي يملأ إقراره الضريبي في ثلاث دول معا طالما حملت جوازاتها (مصر وبلجيكا وألمانيا)!
أما من لا يحمل جنسية البتة، أو كما يسمونه في بعض الدول "البدون" Staatenlos ، وله في ذلك أحوالٌ شتى، وظنون متباينة. فقد أجرت ألمانيا استقضاء عام 2016 عن عدد مزدوجي الجنسية فيها، فقالت: "بين 1.6 مليون و4.3 مليون"، ثم كادت تُتبعها بـ"والله أعلم".
ومن الأسباب العجيبة لذلك المدى البعيد بين الرقمين: هناك من يحمل جنسية ولا يعلم، أو "ظن" أنها سُحبت منه، أو نال أخرى ولم يُبلّغ عن هذا الاكتساب، طبعا ألمانيا عرفت بهذا عندما استخدم المتذاكي جوازاً دون علم سلطات بلده…(مسكين فلا يعرف أن قواعد بيانات المنافذ الجوية مرتبطة ببعض ويظن أنه يعيش في سيتينيات القرن الماضي) والأعجب أن الدول تعلم بكل تحرك في ظل أنظمة التتبع والشرائح والبيانات البيومترية، فلا تخفى على الأجهزة حركةٌ ولا مقام.
ولك أن تعلم أن 28.3٪ من سكان أمريكا الشمالية المقيمين في ألمانيا يملكون جوازين، وأن ثلث من يحمل الجواز الألماني مع آخر هم من أبناء القارة الأوروبية وداخل هذا الثلث يتم تصنيفي.
ختامًا:
فليكن لك من هذه الحكمة زادًا في أسفارِك، وتبصرًا في أوراقك، وتذكّر دائمًا أن السفر ليس تنقلا جغرافيا فقط،لكنك تعبر بوابات النظام العالمي بتعقيداته، وأن جواز السفر كما يفتح لك بابًا، لكنه قد يسد عليك ألفًا.
جعلها الله مفتاحا لنا لكل خير ومغلاقا لكل شر
(الصورة: باب الفتوح بالقاهرة, أول بوابة عبرها المؤلف في طفولته بلا أختام ولا هموم)
Commenti